فصل: باب في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.باب في الاستعاذة:

قال الله عز وجل: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} معناه إذا أردت أن تقرأ فأوقع الماضي موقع المستقبل لثبوته.
وأجمع العلماء على أن قول القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ليس بآية من كتاب الله.
وأجمعوا على استحسان ذلك والتزامه عند كل قراءة في غير صلاة.
واختلفوا في التعوذ في الصلاة فابن سيرين والنخعي وقوم يتعوذون في كل ركعة ويمتثلون أمر الله سبحانه بالاستعاذة على العموم في كل قراءة، وأبو حنيفة والشافعي يتعوذان في الركعة الأولى من الصلاة، ويريان قراءة الصلاة كلها كقراءة واحدة، ومالك رحمه الله لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة، ويراه في قيام رمضان، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعوذ في صلاة.
وأما لفظ الاستعاذة فالذي عليه جمهور الناس وهو لفظ كتاب الله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وأما المقرئون فأكثروا في هذا من تبديل الصفة في اسم الله، وفي الجهة الأخرى كقول بعضهم أعوذ بالله المجيد من الشيطان المريد ونحو هذا مما لا أقول فيه نعمت البدعة ولا أقول أنه لا يجوز.
ومعنى الاستعاذة الاستجارة والتحيز إلى الشيء على وجه الامتناع به من المكروه.
وأما الشيطان فاختلف في اشتقاقه، فقال المحذاق: هو فيعال من شطن إذا بعد لأنه بعد عن الخير والرحمة.
وأما الرجيم فهو فعيل بمعنى مفعول كقتيل وجريح، ومعناه أنه رجم باللغة والمقت وعدم الرحمة.

.باب في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم:

روي أن رجلا قال بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم: تعس الشيطان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل ذلك؛ فإنه يتعاظم عنده، ولكن قل بسم الله الرحمن الرحيم فإنه يصغر حتى يصير أقل من الذباب».
والبسملة تسعة عشر حرفا.
قال بعض الناس: إن رواية بلغتهم أن ملائكة النار الذين قال الله فيهم: {عليها تسعة عشر} إنما ترتب عددهم على حروف بسم الله الرحمن الرحيم، لكل حرف ملك، وهم يقولون في كل أفعالهم: بسم الله الرحمن الرحيم، فمن هنالك هي قوتهم، وباسم الله استضلعوا.
قال ع: وهذا من ملح التفسير وليس من متين العلم.
ت: ولا يخفي عليك لين ما بلغ هؤلاء، ولقد أغنى الله تعالى بصحيح الأحاديث وحسنها عن موضوعات الوراقين، فجزى الله نقاد الأمة عنا خيرا، وما جاء من الأثر عن جابر وأبي هريرة مما يقتضي بظاهره أن البسملة آية من الفاتحة يرده صحيح الأحاديث؛ كحديث أنس وأبي بن كعب وحديث: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي...» ونحوها، ولم يحفظ قط عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الخلفاء بعده أنهم يبسملون في الصلاة.
ع: والباء في بسم الله متعلقة عند نحاة البصرة باسم تقديره ابتدائي مستقر أو ثابت بسم الله، وعند نحاة الكوفة بفعل تقديره ابتدأت بسم الله، واسم أصله سمو بكسر السين أو سمو بضمها، وهو عند البصريين مشتق من السمو.
ت: وهو العلو والارتفاع.
قال ص: والاسم هو الدال بالوضع على موجود في العيان إن كان محسوسا، وفي الأذهان إن كان معقولا من غير تعرض ببنيته للزمان، ومدلوله هو المسمى، والتسمية جعل ذلك اللفظ دليلا على المعنى، فهي أمور ثلاثة متباينة، فإذا أسندت حكما إلى لفظ اسم، فتارة يكون حقيقة، نحو: زيد اسم ابنك، وتارة يكون مجازا، وهو حيث يطلق الاسم، ويراد به المسمى، كقوله تعالى: {تبارك اسم ربك}، و{سبح اسم ربك}، وتأول السهيلي: {سبح اسم ربك} على إقحام الاسم، أي: سبح ربك، وإنما ذكر الاسم حتى لا يخلو التسبيح من اللفظ باللسان؛ لأن الذكر بالقلب متعلقه المسمى، والذكر باللسان متعلقه اللفظ، وتأول قوله تعالى: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء} بأنها أسماء كاذبة غير واقعة على الحقيقة، فكأنهم لم يعبدوا إلا الأسماء التي اخترعوها. انتهى.
وقال الكوفيون: أصل اسم وسم من السمة، وهي العلامة؛ لأن الاسم علامة لمن وضع له، والمكتوبة التي لفظها الله أبهر أسمائه تعالى، وأكثرها استعمالا، وهو المتقدم لسائرها في الأغلب، وإنما تجيء الأخر أوصافا، وحذفت الألف الأخيرة من الله لئلا يشكل بخط اللات، وقيل: طرحت تخفيفا، والرحمن صفة مبالغة من الرحمة معناها أنه انتهى إلى غاية الرحمن، وهي صفة تختص بالله تعالى، ولا تطلق على البشر، وهي أبلغ من فعيل، وفعيل أبلغ من فاعل؛ لأن راحما يقال لمن رحم ولو مرة واحدة، ورحيما يقال لمن كثر منه ذلك، والرحمن النهاية في الرحمة.

.تفسير فاتحة الكتاب:

بحول الله تعالى وقوته.
قال ابن عباس وغيره أنها مكية ويؤيد هذا أن في سورة الحجر: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} والحجر مكية بإجماع وفي حديث أبي بن كعب أنها السبع المثاني.
ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة وما حفظ انه كانت قط في الإسلام صلاة بغير الحمد لله رب العالمين وروي عن عطاء بن يسار وغيره أنها مدينة.
وأما أسماؤها فلا خلاف أنه يقال لها فاتحة الكتاب.
واختلف هل يقال لها أم الكتاب؛ فكره ذلك الحسن بن أبي الحسن، وأجازه ابن عباس وغيره.
وفي تسميتها بأم الكتاب حديث رواه أبو هريرة.
واختلف هل يقال لها أم القرآن؛ فكره ذلك ابن سيرين، وجوزه جمهور العلماء.
وسميت المثاني؛ لأنها تثني في كل ركعة، وقيل: لأنها استثنيت لهذه الأمة.
وأما فضل هذه السورة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب: «أنها لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها».
وروي أنها تعدل ثلثي القرآن، وهذا العدل إما أن يكون في المعاني، وإما أن يكون تفضيلا من الله تعالى لا يعلل، وكذلك يجيء عدل: {قل هو الله أحد}، وعدل {إذا زلزلت} وغيره.
ت: ونحو حديث أبي حديث أبي سعيد بن المعلى إذ قال له صلى الله عليه وسلم: «ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن {الحمد الله رب العالمين} هي سبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته». رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه. انتهى من سلاح المؤمن تأليف الشيخ المحدث أبي الفتح تقي الدين محمد بن علي بن همام رحمه الله.

.تفسير الآيات (1- 3):

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)}
الحَمْدُ: معناه الثناء الكاملُ، والألف واللام فيه لاِستغراقِ الجنس من المحامد، وهو أعم من الشكر؛ لأنَّ الشكر إنما يكون على فِعْلٍ جميل يسدى إِلى الشاكر، والحمد المجرَّد هو ثناء بصفات المحمود.
قال * ص *: وهل الحمدُ بمعنى الشكْر أو الحمدُ أَعمُّ، أو الشكر ثناءٌ على اللَّه بأفعاله، والحمد ثناء عليه بأوصافه؟ ثلاثةُ أقوال. انتهى.
قال الطبريُّ: الحمدُ لِلَّهِ: ثناءٌ أثنى به على نفسه تعالى، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه؛ فكأنه قال: قولوا: الحمد للَّه، وعلى هذا يجيء: قولوا: {إِيَّاكَ}، و{اهدنا}.
قال: وهذا من حذف العربِ ما يدلُّ ظاهر الكلام عليه، وهو كثيرٌ.
والرب؛ في اللغة: المعبودُ، والسيدُ المالكُ، والقائمُ بالأمور المُصْلِحُ لما يفسد منها، فالرب على الإِطلاق هو ربُّ الأرباب على كل جهة، وهو اللَّه تعالى.
والعَالَمُونَ: جمع عَالَمٍ، وهو كل موجود سوى اللَّه تعالى، يقال لجملته: عَالَمٌ، ولأجزائه من الإنس والجن وغير ذلك عَالَمٌ، عَالَمٌ، وبحسب ذلك يجمع على العَالَمِينَ، ومن حيثُ عالَمُ الزمانِ متبدِّلٌ في زمان آخر، حَسُنَ جمعها، ولفظة العالَمِ جمع لا واحد له من لفظه، وهو مأخوذ من العَلَمِ والعلامة؛ لأنه يدل على موجده؛ كذا قال الزَّجَّاج، قال أبو حَيَّان: الألف واللام في العَالَمِينَ لِلاستغراقِ، وهو جمع سلامة، مفرده عَالَمٌ، اسم جمع، وقياسه ألا يجمع، وشذَّ جمعه أيضاً جمع سلامة؛ لأنه ليس بعَلَمٍ ولا صفةٍ.
* م *: وذهب ابنُ مالك في شَرْحِ التَّسْهِيلِ إلى أن عَالَمِين اسم جمعٍ لمن يعقل، وليس جمع عالمٍ؛ لأن العَالَمَ عامٌّ، وعالَمِينَ خاصٌّ، قلت: وفيه نظر. انتهى.
وقد تقدَّم القول في الرحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (4- 5):

{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}
{مالك يَوْمِ الدين}: الدِّينُ في كلام العربِ على أنحاء، وهو هنا الجزاءُ يوم الدين، أي: يوم الجزاء على الأعمال والحساب بها؛ قاله ابن عباس وغيره؛ مَدِينِينَ: محاسَبِينَ، وحكى أهل اللغة: دِنْتُهُ بِفِعْلِهِ دَيْناً؛ بفتح الدال، وَدِيناً؛ بكسرها: جزيتُهُ؛ ومنه قول الشاعر: [الكامل]
واعلم يَقِيناً أَنَّ مُلْكَكَ زَائِلٌ ** واعلم بِأَنَّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ}: نطق المؤمن به إِقرار بالربوبية، وتذلُّل وتحقيق لعبادة اللَّه؛ وقدَّم {إِيَّاكَ} على الفعل اهتماما، وشأن العرب تقديم الأَهَمِّ، واختلف النحويُّون في {إِياك}، فقال الخليلُ: إيَّا: اسم مضمر أضيف إِلى ما بعده؛ للبيان لا للتعريف، وحكى عن العرب: إِذَا بَلَغَ الرَّجُلُ السِّتِّينَ، فَإِيَّاهُ وَإِيَّا الشَّوَابِّ، وقال المبرِّد: إِيَّا: اسمٌ مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف، وحكى ابن كَيْسَانَ عن بعض الكوفيِّين أنَّ {إِيَّاكَ} بكماله اسم مضمر، ولا يعرف اسم مضمر يتغيَّر آخره غيره، وحكي عن بعضهم أنه قال: الكاف والهاء والياء هو الاسم المضمر، لكنها لا تقوم بأنفسها، ولا تكون إِلا متصلات، فإذا تقدَّمت الأفعال جعل إِيَّا عماداً لها، فيقال: إِيَّاكَ، وإِيَّاهُ، وإِيَّايَ، فإِذا تأخرت، اتصلت بالأفعال، واستغني عن إِيَّا.
و{نَعْبُدُ}: معناه: نقيم الشرع والأوامر مع تذلُّل واستكانةٍ، والطريقْ المذلَّل يقال له معبَّدٌ، وكذلك البعير.
و{نَسْتَعِينُ}؛ معناه نطلب العون منك في جميع أمورنا، وهذا كله تَبَرٍّ من الأصنام.

.تفسير الآيات (6- 7):

{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}
وقوله تعالى: {اهدنا}: رغبة؛ لأنها من المربوب إلى الرب، وهكذا صيغ الأمر كلها، فإِذا كانت من الأعلى، فهي أَمْرٌ.
والهِدَايَةُ؛ في اللغة: الإرشادُ، لكنها تتصرف على وجوه يعبر عنها المفسِّرون بغير لفظ الإِرشاد وكلها إِذا تأملت راجِعةٌ إلى الإرشاد، فالهدى يجيء بمعنى خَلْقِ الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى: {أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 5] و{يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} [النور: 46]، و{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} [القصص: 56] {فَمَن يُرِدِ الله أَنْ يَهْدِيَهُ} [الأنعام: 125] الآية، قال أبو المعالي: فهذه الآيات لا يتجه جلها إلا على خلق الإيمان في القلب، وهو محض الإرشاد.
وقد جاء الهدى بمعنى الدعاء؛ كقوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] أي: داع {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
وقد جاء الهدى بمعنى الإِلهام؛ من ذلك قوله تعالى: {أعطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50].
قال المفسِّرون: ألهم الحيواناتِ كلَّها إِلى منافعها.
وقد جاء الهدى بمعنى البيان؛ من ذلك قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم} [فصلت: 17] قال المفسِّرون: معناه: بيَّنَّا لهم.
قال أبو المعالي: معناه: دعوناهُمْ، وقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى} [الليل: 12]، أي: علينا أنْ نبيِّن.
وفي هذا كله معنى الإِرشاد.
قال أبو المعالي: وقد ترد الهدايةُ، والمراد بها إِرشاد المؤمنين إِلى مسالك الجِنَانِ والطرقِ المفضيةِ إِلَيْهَا؛ كقوله تعالى في صفة المجاهدين: {فَلَنْ يُضِلَّ أعمالهم سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 4-5] ومنه قوله تعالى: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} [الصافات: 23]، معناه: فاسلكوهم إِليها.
قال * ع *: وهذه الهدايةُ بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا، وهي ضدُّ الضلالِ، وهي الواقعة في قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم}؛ على صحيح التأويلات، وذلك بيِّن من لفظ {الصِّرَاط} والصراط؛ في اللغة: الطريقُ الواضِحُ؛ ومن ذلك قول جَرِيرٍ: [الوافر]
أَمِيرُ المُؤْمِنيِنَ على صِرَاطٍ ** إِذَا اعوج المَوَارِدُ مُسْتَقِيمِ

واختلف المفسِّرون في المعنى الذي استعير له {الصِّراط} في هذا الموضع: فقال علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: الصراط المستقيم هنا القرآنُ، وقال جابرٌ: هو الإِسلام، يعني الحنيفيَّة.
وقال محمَّد بن الحنفيَّة: هو دينُ اللَّه الذي لا يَقْبَلُ مِن العِبَادِ غيره.
وقال أبو العالية: هو رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بَكْر وعمر، أي: الصراط المستقيم طريقُ محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وهذا قويٌّ في المعنى، إلاَّ أنَّ تسمية أشخاصهم طريقاً فيه تجوُّز، ويجتمع من هذه الأقوال كلِّها أنَّ الدعوة هي أنْ يكون الداعي على سنن المنعم عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين في معتقداته، وفي التزامه لأحكام شرعه، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام؛ وهو حالُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحبيه.
وهذا الدعاء إِنما أمر به المؤمنون، وعندهم المعتقدات، وعند كل واحد بعض الأعمال، فمعنى قوله: {اهدنا} فيما هو حاصل عندهم: التثبيتُ والدوام، وفيما ليس بحاصل، إِما من جهة الجهل به، أو التقصير في المحافظة عليه: طلب الإِرشاد إِليه، فكلُّ داع به إنما يريد الصراط بكماله في أقواله، وأفعاله، ومعتقداته؛ واختلف في المشار إِليهم بأنه سبحانه أنعم عليهم، وقول ابن عبَّاس، وجمهور من المفسِّرين: أنه أراد صراط النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالِحِين، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى:
{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} الآية [النساء: 66] إلى قوله: {رَفِيقاً} وقوله تعالى: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين}، اعلم أنَّ حكم كل مضافٍ إلى معرفة أنْ يكون معرفة، وإنما تنكَّرت غَيْرٌ ومِثْلٌ مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما، وذلك إِذا قلْتَ: رأيتُ غَيْرَكَ، فكلُّ شيء سوى المخاطَبِ، فهو غيره؛ وكذلك إِنْ قُلْتَ: رأيْتُ مثْلَكَ، فما هو مثله لا يحصى؛ لكثرة وجوه المماثلة.
و{المغضوب عَلَيْهِمْ}: اليهودُ، والضالُّون: النصارى؛ قاله ابن مسعود، وابن عَبَّاس، مجاهد، والسُّدِّيُّ، وابن زيد.
وروى ذلك عديُّ بن حاتم عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذلك بيِّن من كتاب اللَّه؛ لأنَّ ذِكْرَ غضَبِ اللَّه على اليهود متكرِّر فيه؛ كقوله: {وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [آل عمران: 112] {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّنْ ذلك مَثُوبَةً عِنْدَ الله...} الآية [المائدة: 60] وغضب اللَّه تعالى، عبارة عن إظهاره عليهم محناً وعقوباتٍ وذِلَّةً، ونحو ذلك ممَّا يدلُّ على أنه قد أبعدهم عن رحمته بُعْداً مؤكَّداً مبالغاً فيه، والنصارى كان محقِّقوهم على شِرْعَةٍ قبل ورود شرعِ محمَّد صلى الله عليه وسلم، فلما ورد، ضلُّوا، وأما غير متحقِّقيهم، فضلالتهم متقرِّرة منذ تفرَّقت أقوالهم في عيسى عليه السلام، وقد قال اللَّه تعالى فيهم: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَنْ سَوَاءِ السبيل} [المائدة: 77].
وأجمع الناسُ على أنَّ عدد آي سورة الحمد سبْعُ آيات؛ العالمين آية، الرحيم آية، الدين آية، نستعين آية، المستقيم آية، أنعمت عليهم آية، ولا الضالين آية، وقد ذكرنا عند تفسير {بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم}؛ أن ما ورد من خلاف في ذلك ضعيفٌ.
القَوْلُ فِي آمِينَ:
روى أبو هريرة وغيره عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِذَا قَالَ الإِمَامُ: {وَلاَ الضالين}؛ فَقُولُوا آمِينَ، فَإنَّ المَلاَئِكَةَ فِي السَّماءِ تَقُولُ: آميِنَ، فَمَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلاَئِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». * ت *: وخرج مسلم وأبو داود والنسائيُّ من طريق أبي موسى رضي اللَّه عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا صَلَّيْتُمْ فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، ثُمَّ ليُؤمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَالَ: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين} فَقُولُوا: آمِينَ، يُجِبْكُمُ اللَّهُ» الحديثَ. انتهى.
ومعنى {آمِينَ}؛ عند أكثر أهل العلم: اللَّهُمَّ، استجب، أو أجبْ يَا رَبِّ.
ومقتضى الآثار أنَّ كل داع ينبغي له في آخر دعائه أنْ يقول: آمِينَ، وكذلك كل قارئ للحمدِ في غير صلاة، وأما في الصلاة، فيقولها المأموم والفَذُّ، وفي الإمام في الجهر اختلاف.
واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلاَئِكَةِ»، فقيل: في الإجابة، وقيل: في خلوص النية، وقيل: في الوقت، والذي يترجَّح أنَّ المعنى: فمن وافق في الوقْتِ مع خلوصِ النيةِ والإِقبالِ على الرغبة إِلى اللَّه بقلْبٍ سليمٍ فالإِجابة تتبع حينئذ؛ لأِنَّ من هذه حاله، فهو على الصراط المستقيم.
وفي صحيح مُسْلِمٍ وغيره عن أبي هريرة قال: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ العَبْدُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، قَالَ اللَّهُ؛ حَمِدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ اللَّهُ: أثنى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، فَإذَا قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: اهدنا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» انتهى، وعند مالك: «فَهَؤُلاَءِ لِعَبْدِي».
وأسند أبو بكر بن الخَطِيبِ عن نافعٍ عن ابن عُمَرَ قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ، فَقِرَاءَةُ الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» انتهى من تَارِيخِ بَغْدَاد ولم يذكر في سنده مَطْعَناً.
وقال ابن العربيِّ في أحكامه: والصحيحُ عندي وجوبُ قراءتها على المأمومِ فيما أسر فيه، وتحريمها فيما جهر فيه، إذا سمع الإِمام لِمَا عليه من وجوب الإِنصاتِ والاِستماعِ، فإِنْ بَعُدَ عن الإِمام، فهو بمنزلة صلاة السرِّ. انتهى.
نجز تفسير سورة الحَمْدِ، والحَمْدُ للَّه بجميع محامده كلِّها؛ ما علمْتُ منها، وما لم أَعْلَمْ.